الصحافة

سوريا استعادت “مفتيها”: ماذا عن دولة الأكثريّة؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

سورية باقيةٌ في أعماقنا لبنانيّين وعرباً بقدر فلسطين وليس أقلّ. ولا يرجع ذلك إلى العلاقة الخاصّة بين لبنان وسورية المليئة بالقضايا والإشكاليّات، بل إلى أمرٍ أبعد وأكثر اتّساعاً في التاريخ والجغرافيا والاعتقادات والجمهور.

تعرّفت إلى المفكّر اليساريّ الراحل الياس مرقص في بيروت عام 1981. قابلته في صحيفة “السفير” ثمّ صرنا أصحاباً على الرغم من جدالٍ ونقاشٍ متشعّبٍ أظهر وجود وجوه وعيٍ مختلفة، ليس بسبب الافتراق في الدين أو المذهب السياسي، فقد كان شخصيةً شديدة البراءة وغائصاً إلى قمّة رأسه في التمييزات اليساريّة المتشعّبة في سورية ولبنان والعراق والعالم. ما أثار اهتمامي بالتعرّف عليه هو مقالة قد كتبها في صحيفة “السفير” في عدد 28 حزيران عام 1981 (ما تزال ورقتها القديمة المنتزعة من الصحيفة بين أوراقي الفوضوية، وقد قضيتُ وقتاً في التفتيش حتّى عثرتُ عليها). ذكر مرقص في المقالة أنّه لا يسع السوريين والأمّة البقاء حبيسي مبدأ أو حقّ “الأكثريّة”(!).

 كان مرقص معارضاً بشدّة لنظام حافظ الأسد، وانزعاجه من دعوى الأكثرية ناجم، كما قال، عن أنّ الإخوان المسلمين السوريين يتحدّثون باسمها (ولنذكر: على مشارف التمرّد في مدينة حماة الذي انتهى بمذبحة عام 1982). بالطبع كان مرقص ماركسيّاً، والشيوعيون في العالم العربي كانوا نخبةً صغيرةً في سائر البلاد العربية.

لكن في حالة سورية حافظ الأسد كانت النخبويّة مزدوجة أو مثلّثة: نخبويّة حزب البعث، ونخبويّة الطائفة الحاكمة، ونخبويّة التفرقة التي كانت ما تزال ظاهرة داخل عسكريّي الطائفة العلوية بين معسكرَي حافظ الأسد وصلاح جديد. الطريف أنّ مرقص ما لفتت انتباهه دعوى “الإخوان” تمثيل الأكثرية فقط، بل وكلام يساريين آخرين من أصول سنّيّةٍ عن طائفية النظام منذ ذلك الزمن البعيد!

التعبير عن السّنّيّة

لماذا أعود إلى ذلك الآن؟ لعدّة أسبابٍ أهمّها: إعادة تشكيل النخبة الدينية السورية وإعادة بناء المؤسّسة الدينية على يد النظام الجديد، وتشكيل الحكومة السورية الجديدة. وهذه الرمزية السنّية يجري تأكيدها بكلّ مناسبة، واضطرّت الأوساط التجارية والدينية في دمشق وحلب وحمص وحماة في كلّ مناسبةٍ أيضاً إلى التعبير عن عدم طائفيّتها أو عصبيّتها الأكثرية، في حين لا يتحرّج الآتون من إدلب إلى السلطة بدمشق وعامّة المدن في التعبير عن سنّيّتهم (إسلامهم) التي يقولون إنّها كانت مضطهدةً ومقموعةً أيّام الأسدين.

بين أواخر الثمانينيات من القرن الماضي والتسعينيات، وقد استقرّ الأمر تماماً لحافظ الأسد وبدأ يفكّر في استخلاف أولاده، قبِل القائد الأبديّ وساطة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي الفقيه والواعظ المعروف والصوفيّ مع الإخوان المبعَدين للعودة إلى سورية، وإطلاق كثيرين من السجون.

إنّما الأكثر إثارة للاهتمام أنّ حافظ الأسد كان يقوم منذ مدّة بأمرين آخرين بعدما يئس من إمكان استبعاد العامل الديني لإسقاط مرجعية الإخوان في الأوساط الدينية السورية: إعادة بناء التقليد السنّي القديم في المدن، وصنع نخبة جديدة من رجال الدين صنعهم النظام في المؤسّسات (وزارة الأوقاف)، والانفتاح على الجماعات التقليدية الجديدة مثل المتحلّقين من حول المفتي كفتارو، والسماح لهم بإنشاء معاهد دينية مثل الشيخ الفرفور وأولاده وأقاربه. وسأعود لذلك.

أمّا بشّار الأسد فقد مضى أكثر في نصرة الجدد الموالين للنظام من رجال الدين (ورمزهم أحمد حسّون الذي قُبض عليه أخيراً)، والجمعيّات الدينية الجديدة ذات الطابع الخيري والدعوي معاً وذات النزوع الروحي والصوفي. ومن بين الجدد جمعيّات نسائية تهتمّ بالحياة الروحية، لكنّها تهتمّ أيضاً بالتعليم الديني وتدخل في تجارة المدارس بين المدني والديني.

لكن بعد وفاة الشيخ أحمد كفتارو (1915-2004)، واستمرار امتداد الإخوان، وعدم وجود زعامات دينية بين الجدد يمكن الاطمئنان إليها، أقدم بشار الأسد على محاولة هدم المؤسّسة بما في ذلك ما قام به والده. طبعاً بعدما كان قد رفض كلّ الوساطات لمصالحةٍ مع الإخوان الذين تكاثروا في المنافي من جديد.

لماذا قام بشّار بذلك، وبخاصّةٍ في العقدين الأخيرين؟

يشير الخبراء الأجانب بالجوّ الديني في سورية إلى عاملين أساسيَّين في حنق بشار على الإسلام كلّه

1- التحالف الذي توثّقت مظاهره بين الجماعات الدينية الجديدة التي سمح بها النظام وبين فئات التجّار كما كان يجري مع علماء التقليد قبل الحكم البعثي.

2- الدخول الإيراني القويّ والقويّ جدّاً على الملفّ الديني، بحيث انتشرت حسينيّاتهم في كلّ مكان، وظهرت معاهدهم وجامعاتهم في عشرات المدن، ولذلك بدوا هم والعلويون والدروز وفئات أخرى في مجلس الإفتاء الذي خلف منصب المفتي العامّ المُلغى على الرغم من شدّة ولاء بدر حسّون ووزراء الأوقاف (الذين يعيّنون الأئمّة والخطباء ومدرّسي الدين ومديري الأوقاف في المناطق).

يضيف عارفون سوريون إلى عوامل الانتقام: التداخل الذي حصل بين إخوان الخارج وبعض الجمعيات الدينية الجديدة بالداخل السوري، ومنها ما كان الأسد وزوجته أسماء يحرصان على رعايته.

إعادة منصب المفتي

قام الرئيس السوري أحمد الشرع بإعادة منصب المفتي العامّ الذي ألغاه بشّار الأسد.

وإظهاراً للاهتمام الفائق، ظهر الرئيس مع الشيخ المعيَّن مفتياً أُسامة الرفاعي في الإعلان. والشيخ أُسامة الذي بدا في اللفائف الصوفية وليس في اللباس التقليدي لعلماء الشام، هو ابن الشيخ عبدالكريم الرفاعي (1904-1973) العالم والواعظ المعروف بين الستّينيات والسبعينيات من القرن الماضي، الذي كان التلامذة يقصدونه من أنحاء سورية ومن الخارج العربي والإسلامي.

تكوّنت النخبة العلمائيّة السوريّة في كلّية الشريعة بجامعة دمشق، وأنجزت دراساتها العليا في الأزهر أو في السعودية (مثل وهبة الزحيلي والبوطي ونورالدين العتر). أمّا الشيخ عبد الكريم فقد بقي في جامعه ومدرسته وما ذهب للتدريس الجامعي، وبخلاف زملائه في الجامعة ما كان همّه الفقه بالدرجة الأولى، بل التعليم العَقَديّ (= المذهب الأشعريّ) ممزوجاً بالروحانيّات الصوفية، وقد كان الشيخ عبدالكريم قد أخذ الطريقتين التيجانيّة والنقشبنديّة عن شيوخه. لكنّ الطريف أنّه قال في نهاية حياته: إنّ الطريقة انتهت.

الشيخ أسامة هو أكبر أبناء الشيخ عبدالكريم، وقد مضى إلى السعودية في الثمانينيات، لكنّه عاد عام 1993 إلى دمشق بعد مقاربات الأسد مع علماء التقليد الممتزج بالتصوّف لدى الشاميّين منذ العصور الوسطى. وفي دمشق أنشأ “جمعية زيد” المعنيّة بالعمل التعليمي والخيريّ.

تجنّب مثل سائر العلماء الكلام السياسي، ونجحت الجمعية وازدهرت ونافست جمعيّات كفتارو مفتي الأسد الرسمي. وبخلاف صديقه محمد سعيد رمضان البوطي الذي ظلّ على ولائه للنظام والدعوة إلى طاعة وليّ الأمر وحفظ الوحدة الوطنية، فإنّه منذ عام 2011 بدأ بنقد التصرّفات العنيفة للأمن السوري ضدّ المتظاهرين.

سرعان ما جرى اعتقاله، لكن بسبب سمعته العالية سُرعان ما أُطلق سراحه وسُمح له بمغادرة سورية، فمضى إلى إسطنبول. ولمّا ألغى بشار الأسد منصب المفتي، عيّنته حكومة المعارضة بالخارج مفتياً للبلاد. وما انخرط الشيخ أُسامة كثيراً في أعمال المعارضة حتى الديني والأخلاقي منها.

عندما سيطر المعارضون في شمال سورية وبعض شمالها الشرقي دعوه إلى العودة، فرفض لأنّه ما كان يريد أن يكون مع فريقٍ دون آخر.

لقد عاد الشيخ أُسامة قبل شهر إلى دمشق فاحتفى به أحمد الشرع، وعاد لمسجده الصغير بوسط دمشق. والآن وفي خطوةٍ ذكيّة وذات دلالات عيّنه الشرع مفتياً عامّاً للبلاد، وهو الاسم الذي كان للمنصب وصاحبه منذ الخمسينيات من القرن العشرين.

الإفتاء في المدن

دائماً ومنذ أيّام العثمانيين كان الإفتاء في المدن من أعمال الدولة. وكان السلطان هو الذي يصدر مراسيم التعيين في المدن المختلفة.

ويكون المعيَّن من أحد المذاهب الأربعة، وفي بلاد الشام كان البعض شافعيّاً والبعض الآخر حنفيّاً تبعاً لمذهب الدولة. وعندما قامت الدول الوطنية بعد الحرب الأولى بالتدريج، ظلَّ إفتاء المناطق والمدن، لكن صار هناك مفتٍ عامّ يتبعه مفتو المناطق الذين لديهم استقلالية معتبرة.

المفتي في لبنان لقبه مفتي الجمهورية اللبنانية منذ أيّام الانتداب الفرنسي، والأوقاف تابعة له، وكذلك مفتو المناطق. أمّا في سورية فللأوقاف وزارة مستقلّة، وهي النافذة في إدارة الشأن الديني الداخلي لأنّ الجهاز الديني للمساجد والأوقاف تابع لها. فماذا ستكون مهامّ المفتي العامّ الجديد/القديم في سورية؟ هل يكون رئيس هيئةٍ للعلماء رعايةً للرمزيّة الموروثة أم تكون له صلاحيّات تنفيذية أوسع؟

إلياس مرقص المفكّر اليساريّ السوريّ الذي ذكرتُ انزعاجه من عقليّة الأكثريّة (السنّية) في بداية المقال، كان ذكيّاً في إدراك هذا المعنى العميق للكثرة السنّية وهمومها، الذي ينكره عليها اليوم مَنْ يُسمَّون بالمكوّنات أو الأقلّيات. إذا كانت الديمقراطية بطبيعتها أكثريّة، فهؤلاء ينكرون عليها ذلك حتى بالمعنى السياسي.

لكنّ هذا الأمر عميق وعريق في سائر البلدان العربية ذات الأكثرية السنّية. فهل يعود أمر “التقليد” الأكثريّ إلى مظاهره ذات الطبيعة الدينية والرمزيّة؟ هذا ما يحاول أحمد الشرع مراعاته وتأكيده في سائر تصرّفاته. لكنّ كلّ الآخرين نسوه منذ عام 1963، ولا يحبّون أن يذكّرهم به أحد. بينما يهدف أحمد الشرع إلى إرضاء مشاعر الأكثريّة السنّية التي طال قمعها أو إهمالها ليس في سورية فقط، بل في سائر أنحاء بلاد الشام. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

رضوان السيد -اساس

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا